فصل: الحكم الثالث: كيف تكون عقوبة الصلب؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.وجه الارتباط بالآيات السابقة:

بعد أن ذكر تبارك وتعالى قصة «قابيل وهابيل» ابني آدم عليه السلام، وأبان فظاعة جُرم القتل، وشدّد في تبعة القاتل فذكر أن من قتل نفسًا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعًا، ذكر تعالى هنا العقاب الذي يؤخذ به المفسدون في الأرض، حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم، وأوضح عقوبة السارق أيضًا لأنها نوع من إخلال الأمن في الأرض، وضربٌ من ضروب الإفساد، وقد شرع الله جل وعلا الحدود لتكون زواجر للناس عن ارتكاب الجرائم، فناسب ذكر «حد السرقة» و«حد قطع الطريق» بعد ذكر جريمة القتل.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: ذكرُ المحاربة لله عزّ وجل: {يُحَارِبُونَ الله} مجاز، إذ الله سبحانه وتعالى لا يُحارب ولا يُغالب، لما له من صفات الكمال، وتنزهه عن الأضداد والأنداد، فالكلام على «حذف مضاف» أي يحاربون أولياء الله، فعبّر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارًا لإذايتهم، كما عبّر بنفسه عن الفقراء والضعفاء في قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] حثًا على الاستعطاف عليهم، ومثله ما ورد في صحيح السنة «ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني».
اللطيفة الثانية: النفي من الأرض كما يكون بالطرد والإبعاد، يكون بالحبس، فقد روي عن مالك أنه قال: النفي السجن، ينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها، فكأنه إذا سجن نفي من الأرض، لأنه لا يرى أحبابه، ولا ينتفع بشيء من لذائذ الدنيا وطيباتها.
قال الإمام الفخر: ولما حبسوا «صالح بن عبد القدوس» في حبس ضيّق على تهمة الزندقة وطال مكثه أنشد:
خرجنا عن الدنيا وعن وصل أهلها ** فلسنا من الأحيا ولسنا من الموتى

إذا جاءنا السجّان يومًا لحاجة ** عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

اللطيفة الثالثة: قال الزمخشري: قوله تعالى: {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} هذا تمثيلٌ للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيتَ لو كان لك ملء الأرض ذهبًا أكنتَ تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك، ألا تشرك بي شيئًا فأبيت».
اللطيفة الرابعة: قدّم السارق على السارقة هنا {والسارق والسارقة} وأمّا في آية الزنا فقد قدم الزانية على الزاني {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] والسرّ في ذلك أن الرجل على السرقة أجرأ، والزنى من المرأة أقبح وأشنع، فناسب كلًا منهما المقامُ.
اللطيفة الخامسة: قال الأصمعي: قرأت هذه الآية وإلى جنبي أعرابي فقلت: «والله غفور رحيم» سهوًا، فقال الأعرابي: كلامُ مَنْ هذا؟ قلت: كلام الله، قال: أعد فاعدت: والله غفور رحيم، فقال: ليس هذا كلام الله فتنبهّتُ فقلت {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقال: أصبتَ، هذا كلام الله، فقلت: أتقرأ القرآن؟ قال: لا، قلت: فمن أين علمتَ أني أخطأتُ؟ فقال: يا هذا، عزّ، فحكم، فقطع، ولو غفر، ورحم لما قطع أقول: هذا يدل على ذكاء الأعرابي وشدة الترابط والانسجام بين صدر الآية وآخرها.
اللطيفة السادسة: قال بعض الملحدين في الاعتراض على الشريعة الغراء بقطع اليد بسرقة القليل، ونظم ذلك شعرًا:
يدٌ بخمس مئينَ عَسْجَدٍ ودُيتْ ** ما بالُها قُطِعتُ في ربع دينار

تحكّمٌ ما لنا إلا السكوتُ له ** وأنْ نَعوذَ بمولانا من النّار

فأجابه بعض الحكماء بقوله:
عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها ** ذلّ الخيانةِ فافهم حكمة الباري

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: من هو المحارب الذي تجري عليه أحكام قطاع الطريق؟

دلت الآية الكريمة على حكم المحاربة والإفساد في الأرض، وقد حكم الله تعالى على المحاربين بالقتل، أو الصلب، أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض وقد اختلف الفقهاء فيمن يستحق اسم المحاربة.
ا- فقال مالك: المحارب عندنا من حمل الناس السلاح وأخافهم في مصرٍ أو برية.
ب- وقال أبو حنيفة: المحارب الذي تجري عليه أحكام قطّاع الطريق من حمل السلاح في صحراء أو برية، وأمّا في المصر فلا يكون قاطعًا لأن المجني عليه يلحقه الغوث.
ج- وقال الشافعي: من كابر في المصر باللصوصية كان محاربًا وسواء في ذلك المنازل، والطرق، وديار أهل البادية، والقرى حكمها واحد.
قال ابن المنذر: الكتاب على العموم، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قومًا بغير حجة، لأن كلًا يقع عليه اسم المحاربة.
أقول: ولعلّ هذا هو الأرجح لعموم الآية الكريمة، وربما كانت هناك عصابة في البلد تخيف الناس في أموالهم وأرواحهم أكثر من قطّاع الطريق في الصحراء.

.الحكم الثاني: هل الأحكام الواردة في الآية على التخيير؟

قال بعض العلماء الإمام مخيّر في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل، أو الصلب، أو القطع، أو النفي لظاهر الآية الكريمة {أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا} وهذا قول مجاهد، والضحاك والنخعي، وهو مذهب المالكية.
قال ابن عباس: ما كان في القرآن بلفظ «أو» فصاحبه بالخيار.
وقال قوم من السلف: الآية تدل على ترتيب الأحكام وتوزيعها على الجنايات، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالًا نفي من الأرض، وهذا مذهب الشافعية والصاحبين من الحنفية وهو مروي عن ابن عباس.
وأبو حنيفة يحمل الآية على التخيير، لكن لا في مطلق المحارب، بل في محارب خاص وهو الذي قتل النفس وأخذ المال فالإمام مخير في أمور أربعة:
أ- إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم.
ب- وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم.
ج- وإن شاء صلبهم فقط دون قطع الأيدي والأرجل.
د- وإن شاء قتلهم فقط حسب ما تقتضيه المصلحة.
ولابد عنده من انضمام القتل أو الصلب إلى قطع الأيدي، لأن الجناية كانت بالقتل وأخذ المال، والقتلُ وحده عقوبته القتل، وأخذُ المال وحده عقوبته القطع، ففيهما مع الإخافة والإزعاج لا يعقل أن يكون القطع وحده، هذا مذهب الإمام أبي حنيفة.

.الحكم الثالث: كيف تكون عقوبة الصلب؟

جمهور الفقهاء على أن الإمام مخيّر على ظاهر الآية، وأنه يجوز له صلب المجرم المحارب لقوله تعالى: {أَوْ يصلبوا} وكيفية الصلب أن يصلب حيًّا على الطريق العام يومًا واحدًا، أو ثلاثة أيام لينزجر الأشقياء، ثم يطعن برمح حتى يموت وهو مذهب المالكية والحنفية وقال قوم: لا ينبغي أن يُصلب قبل القتل ولكن بعده لئلا يحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب، فيقتل أولًا ثم يُصلّى عليه ثم يصلب، وهو مذهب الشافعية.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: أكره أن يُقتل مصلوبًا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المًثْلة.
وقال الألوسي: «والصلبُ قبل القتل بأن يُصلبوا أحياء وتبعج بطونهم برمح حتى يموتوا».

.الحكم الرابع: متى تقطع يد السارق، وما هي الشروط في حد السرقة؟

السرقة في اللغة أخذ المال في خفاء وحيلة، وأما في الشرع فقد عرفها الفقهاء بأنها «أخذ العاقل البالغ مقدارًا مخصوصًا من المال خفية من حرزٍ معلوم بدون حق ولا شبهة».
والسارق إنما سمي سارقًا لأنه يأخذ الشيء في خفاء، واسترق السمع: إذا تسمّع مستخفيًا، فقطعُ اليد لا يكون في مطلق السرقة، بل في سرقة شخص معين، مقدارًا معينًا، من حرز مثله، بهذا ورد الشرع الحنيف.
أما العقل والبلوغ فلأن السرقة جناية، وهي لا تتحقق بدونهما، والمجنون والصغير غير مكلفين، فما يصدر منهما لا يدخل في دائرة التكليف الذي يعاقب عليه الفاعل، وإن كانت السرقة من الصغير لا قطع فيها إلا أنها تدخل في باب التعزير.
وأما المقدار الذي تقطع فيه اليد فقد اختلف الفقهاء فيه، فقال أبو حنيفة والثوري: لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدًا أو قيمتها من غيرها.
وقال مالك والشافعي: لا قطع إلا في ربع دينار، أو ثلاثة دراهم.
حجة الحنفية:
أ- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم».
ب- ما نقل عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن عمر، وعطاء أنهم قالوا: لا قطع إلا في عشرة دراهم.
حجة المالكية والشافعية:
أ- ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا».
ب- ما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجنّ ثمنة ثلاثة دراهم.
ج- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا» وهذا القول منقول عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
قال فضيلة الشيخ السايس: وإذا لوحظ أن الحدود تدرأ بالشبهات، وأن الاحتياط أمر لا يجوز الإغضاء عنه، وأن الحظر مقدّم على الإباحة، أمكن ترجيح «مذهب الحنفية» لأن المجنّ المسروق في عهده عليه السلام الذي قطعت فيه يد السارق، قدّره بعضهم بثلاثة دراهم، وبعضهم بأربعة، وبعضهم بخمسة، وبعضهم بربع دينار، وبعضهم بعشرة دراهم، والأخذ بالأكثر أرجح، لأن الأقل فيه شبهة عدم الجناية، والحدود تدرأ بالشبهات ولأن التقدير بالأقل يبيح الحد في أقل من العشرة، والتقدير بالعشرة يحظر الحد فيما هو أقل منها، والحاظر مقدم على المبيح.
وأما اعتبار الحرز فلقوله عليه السلام: «لا قطع في ثَمَر معلق ولا في حريسة جبل، فإذا أواه المُرَاحُ أو الجرينُ فالقطع فيما بلغ ثمن المجن».
والحرز هو ما نصب عادةً لحفظ أموال الناس كالدور والخيم والفسطاط، التي يسكنها الناس ويحفظون أمتعتهم بها، وقد يكون الحرز بالحافظ الذي يجلس ليحفظ متاعه، فإذا كان الحافظ قطع لما روي عن «صفوان بن أمية» أنه قال: كنت نائمًا في المسجد على خميصة «عباءة أو ما أشبهها» لي ثمن ثلاثين درهمًا، فجاء رجلٌ فاختلسها مني، فأخذت الرجل فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع، فقلت: اتقطعه من أجل ثلاثين درهمًا؟ أنا أبيعه وأُنْسئه ثمنها، قال: فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به؟
وأما اعتبار عدم الشبهة فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أدرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» وقد اشتهر هذا فأصبح كالمعلوم بالضرورة، فلا يقطع العبد إذا سرق من مال سيده، ولا الأب من مال ابنه، ولا الشريك من شريكه، ولا الدائن من مدينة لوجود الشبهة.

.الحكم الخامس: من أين تقطع يد السارق؟

دل قوله تعالى: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} على وجوب قطع اليد في السرقة، وقد أجمع الفقهاء على أن اليد التي تقطع هي «اليمنى» لقراءة ابن مسعود {فاقطعوا أيمانهما}.
ثم اختلفوا من أين تقطع اليد فقهاء الأمصار تقطع من المفصل «مفصل الكف» لا من المرفق، ولا من المنكب، وقال الخوارج: تقطع إلى المنكب، وقال قوم: تقطع الأصابع فقط.
حجة الجمهور ما روي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق من الرسغ»، وكذلك ثبت عن «علي» و«عمر بن الخطاب» أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرسغ، فكان هو المعول عليه.
وإذا عاد إلى السرقة ثانيًا قطعت رجله اليسرى باتفاق الفقهاء لما رواه «الدارقطني» عنه عليه السلام أنه قال: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، ثم إذا عاد فاقطعوا رجله اليسرى» ولفعل «علي» و«عمر» من قطع يد سارق ثم قطع رجله، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد فكان ذلك إجماعًا.
وأما إذا عاد إلى السرقة ثالثًا فلا قطع عند الحنفية والحنابلة، ولكنّه يضمن المسروق ويسجن حتى يتوب، وقال المالكية والشافعية: إذا سرق تقطع يده اليسرى، وإن عاد إلى السرقة رابعًا تقطع رجله اليمنى.
ويروى أن أبا حنيفة قال: «إني استحيي من الله أن أدعه بلا يدٍ يأكل بها، وبلا رجل يمشي عليها» وهذا القول مروي عن «علي» و«عمر» وغيرهما من الصحابة.